بين الدين و العلم

على مر التاريخ ارتبط الدين بالعلم، فأصبح غالبية المتعلمين و المثقفين هم من رجال الدين. و قد وصل الأمر في بعض الأحيان –كما في أوروبا – أن احتكر رجال الاكليروس المسيحي القراءة و الكتابة ليغرق العالم الأوروبي بعد ذلك في ظلمات الجهل لأكثر من الف سنة. و نفس الشيء سبق و أن حدث في مصر الفرعونية حيث احتكر الكهنة القراءة و الكتابة و العلوم و الهندسة. واستمر احتكار رجال الدين لفترات من التاريخ لأغلبية العلوم كالطب والفلسفة والتاريخ (والسحر أحياناً).
كان للمسيرة الإنسانية أن تستمر بهذا الشكل لو لا قفزة غير متوقعة حدثت في بدايات النصف الثاني من الألفية المسيحية الأولى. لقد كانت دعوة الإسلام المشفوعة بمبادئ القرآن الكريم المحررة للعقل، شرارة انطلاق لفكر مختلف تماما أدى الى تطور العلوم و انفتاح الفكر على مختلف الثقافات و الأفكار. كما أدى الى تطور مناهج التفكير و الفلسفة التي ساهمت في تحقيق تقدم غير مسبوق في مختلف المجالات العلمية. و أصبح من المألوف التعامل مع الطب و الكيمياء و الفيزياء كمواد علمية لها مناهجها الاستقرائية الطبيعية.
و قد تأثر بالانفتاح الاسلامي فيما بعد مارتن لوثر صاحب الدعوة الاصلاحية البروتستانتية المسيحية حينما ناهض الفكر الكهنوتي المسيحي (ما أصبح يعرف الآن بالكاثوليكي) و احتكار رجال الدين للعلم و القراءة و الكتابة و تفسير الكتاب المقدس الى أن وصل الأمر إلى صياغة صكوك للغفران تضمن لصاحبها دخول الجنة و البعد عن النيران.
والمفارقة هو أن بداية أُفُول هذا العصر الذهبي العلمي جاءت مع بداية ظهور المدارس المذهبية الإسلامية. فقد بدأت المذاهب (كالسني والشعي وغيرهما) بالتشكل في أواخر القرن الهجري الثالث متزامنة مع بداية عصور الضعف في السلطة الإسلامية الموحدة، و متزاخمة مع بدايات الجمود العلمي (مع ملاحظة أن التطور العلمي بلغ ذروته في أقل من 200 سنة بعد بزوغ فجر الإسلام و هو وقت قياسي جدا بالنسبة لوضع العرب و وضع اللغة العربية السياسي و الاجتماعي قبل الاسلام). و ما ان جاء القرن السابع الهجري و جاء معه المغول ليحطموا بغداد، حاضرة المسلمين الأولى، حتى تفشى الجهل كالوباء بين المسلمين و أصبحت الكلمة العليا للرجال الدين، و أصبح وضع المسلمين العلمي و المادي يسير بما بقي من زخم القرون الأولى. و كانت الضربة القاضية مع فرض النظام الإقطاعي العثماني الذي دمر البلاد الإسلامية، وأدخلها العصور المظلمة. مع ملاحظة أن العثمانيين جعلوا الافتاء منصبا رسميا ذو تعيين سلطاني ليقرر الحق من الباطل فيكون بذلك مثل رئيس الكهنة.
و بالعودة الى أوروبا مرة أخرى نجد أن التأثر الذي أحدثته البروتستانتية و الذي شفع بأحداث أخرى قد بدأ بصناعة تاريخ جديد. فقد ترجم مارتن لوثر الإنجيل الى اللغة الألمانية (بعد أن كان حصرا باللغة اللاتينية) و أنهى الكهنوت بأن جعل الكهنة يلبسون و يبدون مثل باقي الناس. و بدأ العلم بالتفشي و الشيوع و دخلت ألمانيا قبل دول أوروبا كلها في بدايات التنوير، و لم يلبث أن تأثر بهذا الاتجاه الكثير من الشعوب الأوروبية خصوصا الذين لهم خبرة مع الإرث العربي العلمي. و من ثم بدأت الكنيسة بالردعن طريق محاربة هؤلاء و اتهامهم بالهرطقة، فقمعت الاتجاهات العلمية الجديدة (غاليليو كمثال) بالاضافة الى التوسع في استخدام محاكم التفتيش (التي استخدمت أساسا للقبض على المسلمين و اليهود في الأندلس بعد زوال الحكم الإسلامي). و زادت وتيرة التوتر لمحاولة حماية الكهنوت الى أن وصلت الى حروب عصفت بالقارة الأوروبية كلها و ما صاحبها من المذابح (مذبحة سان برتيميلي الرهيبة في باريس). و تسبب القتل و الدمار في تفشي الطاعون و قتل الملايين ناهيك عن ضحايا القتال على المصالح السياسية.
باختصار فان العصور الوسطى الأوروبية و الإسلامية هي مثال بسيط عن مدى الدمار و الخراب الذي تحدثه السيطرة الدينية المطلقة على البشر و هو ذات السبب الذي أدى الى انتشار الإلحاد فيما بعد.
إن حفظ القرآن من التحريف في الاسلام هو ما خفف حدة الكهنوت الديني الإسلامي من أن يصبح مؤسسة مغلقة تراتبية كما حصل مع المسيحية واليهودية، ولو تمكن شيوخ المذاهب من القران لاحتكروه كما احتكر القساوسة الإنجيل قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) [التوبة: 34].
و كختام فإن هذا القرآن هو أعظم هدية من رب العالمين و خير نجية. فهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، يدعو الى التفكر و التدبر و اعمال العقل و حرية الإنسان و زوال الطغيان.
الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s