إذا أردت أن تختبر مدى حرية أي مجتمع فانظر الى ممارسته للفن، فهو كالرئة التي يتنفس بها المجتمع حريته و يمارس انسانيته. و كل ما كان الفن متنوعاً و مغايرا للمألوف و متجدداً كلما كان مستوى الحرية أكبر و بالتالي يزيد معه مستوى الابداع، و هو ما يعكس شيئا من فطرة الانسان السوية. فقد سبق و أن تحدثنا عن أن مكونات الفطرة لا تفسر و لا تعلل بل هي موجودةٌ مع وجود الإنسان كالفن و الابداع و التفكير و الحب و الصدق و الحنان و الرغبة و الشهوة و التملك و الحرية و المال و التعارف …الخ، و أن أي محاولةٍ لطمسها أو تشويهها أو تغيير نسبة توزيعها تنتج انسانا مشوها نفسيا و معاقا. و هو ما يحصل في حالات الطغيان السياسي و الديني، حينما تقمع الحريات. و ما ثورة الفنون الكنسية في القرن السابع عشر إلا انعكاسا لعصر النهضة الذي بدأ يضرب ارجاء أوروبا.
إن الطغيان و قمع الحريات و توحيد موجات الفكر، يؤدي الى انحطاط الفنون و تسييسها و توقف الابداع. فعلى سبيل المثال أدى الجمود الفكري و تأميم المؤسسات و الأفكار في الاتحاد السوفيتي الى ظهور ما يعرف بالواقعية الاجتماعية كإتجاه فني جامد يعكس سيطرة الدولة المطلقة و نظرة الصراع الاجتماعية، بشكل لا يقارن مع مدارس الفن المتجددة في الغرب أثناء تلك الحقبة.
بالنظر الى واقع كل المجتمعات المحكومة بالدكتاتورية و الطغيان، تجد أن الفنون هناك لا تخرج عن كونها أداةً اقتصاديةً تجاريةً لتسكين الجماهير -مثلما كانت مصارعة الجلادين في روما القديمة- في قالب مسلسلات هزلية ساقطة، لوحات تقليدية ميتة، ضعف في التنويع، هندسة معمارية منحطة، تخطيط مدن مشوهة و قمع للمواهب الحرة. لاحظ انحدار الفنون في الخمسين سنة الماضية متوافقة مع تقدم ملحوظ في مستوى الدَيْنْ العالمي و نسبة البطالة و ارتفاع الأسعار. و الأدهى من ذلك أن ترى بعض المذاهب تذكي بنارها ذلك القمع لتحرم الغناء، المعازف، رسم ذوات الأرواح، النحت، الجمال و الشاعرية و أن تعلي شأن بعض الفنون على حساب الآخر باسم الدين -كإنشاد الغلمان و الشعر- الذي أصبح دينا يضاد الانسانية، فلا تستغرب من الحاد الملحدين بعد ذلك. و قد أدى ذلك الى صناعة جيل مشوه لا يدرك حتى معنى الجمال الا من خلال ادبيات المذاهب و أقوال العلماء المتكررة من الف سنة و التي أصبحت أقوالاً مقدسةً أكثر من القران نفسه. فأي تجديد و ابداع ننتظره بعد ذلك!
إن المذهبية هي عدوة الفكر الأول، و هي التي جعلت الدين أكبر متهمٍ و طاغٍ في التاريخ، بسبب طغيان هؤلاء الكهنة الذين استولوا عليه. و قد أدى ذلك الى ردة فعلٍ صنعت الالحاد و رفضت الدين بالكلية و رفضت معه عناصر الحرية و الأخلاق الأصيلة فيه. فهل سيأخذ دين الفطرة مساره من جديد؟ و هل سيبزغ فجر جديد ينير فيه القرآنُ العقلَ مرة أخرى في نسقٍ انسانيٍ فطري، يحترم الفرد قبل المجتمع، و الحقوق قبل الواجبات. قال تعالى: (فأقِمْ وجْهَكَ للدِينِ حَنِيفَاً فِطْرَةَ اللهِ التِي فَطَرَ النَاسَ عليها لا تَبْدِيلَ لِخَلقِ الله و لَكِنَّ أكْثَرَ النَاسِ لا يَعْلَمون) الروم:30