هل هناك إله (2): حجة العلم

– العلم يقتضي باستحالة وجود اله…
– لم يعد من حاجة لوجود الاله طالما ان النظرة الميكانيكية الية. و التطور اكثر من كاف لشرح اكثر البنى تعقيدا في الكون…
– أنا مع العلم ضد الدين…
هذه عبارات تعودنا على سماعها مؤخرا، و هي ذات طرح معقول بالنسبة لمن تتلمذ على تصديق الدين لا كطريق للحرية بل كمجموعة من القصص و الآراء و المجامع الفقهية المقدسة. و لكن في الوقت نفسه فإن هذه العبارات تنطوي على فهم مغلوط لمعنى الدين كاعتقاد من جهة و لمعنى العلم التجريبي من جهة أخرى. سنحاول في هذا المقال توضيح مكمن الخطأ في الوصول الى نتيجة نهائية من خلال العلم كالاعتقاد بعدم وجود اله، او حتمية نوع معين من الصراع. سنتعرض أيضا لمعنى الاستحالة و الامكانية بينالعلم و الفلسفة. و من ثم حدود و امكانات المذهب العلمي. و أخيرا معنى الاعتقاد بين العلم و الدين.
لنبدأ بالجملة الأولى: العلم يقتضي باستحالة وجود اله…
هذه الجملة مبنية على خطأ في معرفة ما الذي يثبته العلم أو ينفيه. لا يمكن للعلم أن يعطي جوابا للاستحالة المطلقة. فما هو مستحيل اليوم قد يصبح ممكنا غدا. فمهمة العلم هو محاولة اعطاء تفسيرات تجريبية للمتغيرات من حولنا. و يظهر ذلك جليا في مصطلح قابلية النقض الذي اقترحه كارل بوبر. قابلية النقض تقتضي أن أي نظرية لا يمكن أن تكون علمية ما لم يمكن اثبات أنها قابلة للخطأ تحت ظرف ما. ذلك يعني أن لها مجالا محدودا للتطبيق و ليست مطلقة لكل زمان و مكان و حالة. على سبيل المثال في المجال أ فإن العملية ب تؤدي الى ج. ذلك يقتضي أنه في المجال د فإن العملية ب لا تؤدي الى ج.
من جهة أخرى فإن الاستحالة المطلقة هي قضية فلسفية بحتة. فعندما نقول أن أ هي أ ذلك يقتضي استحالة أن تكون ب هي أ. و عندما نسقط قولنا بأن العلم يتنافى مع الاستحالة المطلقة تصبح النتيجة النهائية أن الجملة الأولى غير صحيحة علميا. و أما فلسفيا فمن الممكن أن تكون صحيحة و تفصيل ذلك يقع خارج حدود المقال.
الجملة الثانية:
لم يعد من حاجة لوجود الاله طالما ان النظرة الميكانيكية الية. و التطور اكثر من كاف لشرح اكثر البنى تعقيدا في الكون…
هذه الجملة تحتاج الى اعادة صياغة ليتضح ما ارمي اليه: “لم يعد من حاجة لوجود الاله طالما أن (النماذج) الميكانيكية اليه. و (النموذج) التطوري …”. ان اضافة كلمة النماذج هي أكثر من مجرد اضافة توضيحية لأن هذه الكلمة تشتمل على معنى الفهم العلمي كاملا. فالنظريات العلمية هي عملية بناء نماذج منطقية عقلية لفهم التغيرات من حولنا. فبالتالي النموذج يعتمد على مدى اتساع الافق الانساني لبنائه لذا تختلف النماذج من عصر الى اخر. فعلي سبيل المثال كان مصطلح السرعة مطلقا قبل وضع النموذج النسبي الاينشتايني. و على ذلك فإن النماذج في عملية تغيير ديناميكي عنيف مستمر، و يدرك ذلك من يعمل في قلب النظام العلمي.
و بالعودة الى الجملة الثانية فإن البناء على النماذج يكون دائما مشوبا بالحذر الشديد و العناية في صياغة الألفاظ. و بإضافة حجج الجملة الأولى يتضح أيضا خطأ الجملة الثانية. و لا أريد هنا الخوض في متاهات النظرة التطورية فما يعنيني هو العلاقة بين الحقائق النهائية و النماذج العلمية.
الجملة الثالثة: أنا مع العلم ضد الدين…
هنا تنقلب الاية تماما. حيث ننتقل من لغة البناء المنطقي الى لغة “نحن و هم”. هنا تتحول الفكرة لتصبح اعتقادا حزبيا مثل الدين تماما نعادي و نحب و نتودد و نتعاون و نوالي و نبغض و نقتل و نصفح على أساسها. أحد الدوافع الأساسية للتساؤل عن الايمان بوجود اله هو الرغبة بالتحرر من الخرافات الدينية التي تناقض العقل في أساسها. و المضحك هو أنه عند تطور الفكرة لتصبح تعبيرا عن حزب “كارهوا الاله” تتحول تلقائيا الى عبودية جديدة تثقل ظهر معتنقيها بالأكاذيب و الخرافات تماما كما حصل إبان الأنظمة الشيوعية. و بالعودة الى الجملة الثالثة نجد إلى أننا وصلنا الى نتيجة كارثية ألا و هي التمهيد لطغيان قادم.
يمكن الخروج من المقال بالنتائج التالية: أنه لرفض أو قبول فكرة معينة يجب أن تكون أدوات الاستنتاج صحيحة. يقتضي ذلك أن الملحد الذي يكتفي باستخدام العلم كوسيلة لتبرير الحاده انما يشبه المتدين الجاهل الذي يقتل دون تمييز و يتذرع بشيخه الذي اخبره ماذا يجب أن يفعل. و من جهة أخرى قد يكون لا مباليا، مجرد ببغاء يعيد الكلام كما هم أكثر أتباع الأديان في هذه الأيام الذين لا يريدون تحمل مسؤولية التفكير لأنفسهم أو للآخرين.
النتيجة الأخرى هي ان الطريق الى “المدينة الفاضلة” لن يكون عن طريق تبني الافكار فقط، فمهما كانت الفكرة صحيحة في مظهرها الا أن بذور الاختلاف موجودة بوجود الانسان. فالمسألة إذا تتغير من قضية فكرية الى قضية أخلاقية. و هنا كانت الأديان و لا تزال في أصلها و جوهرها: دعوة أخلاق و حرية. يتضح هذا التأثير الأخلاقي في المثال الأوروبي حيث إن كل مباديء حقوق الانسان التي تتغنى بها الدول الأوروبية، حتى أكثرها علمانية، أنما هي انعكاس للتأثير المسيحي. و إذا أردت رؤية صورة معاكسة فانظر الى أوروبا الوثنية لتعرف أي تغيير أدخلته المسيحية الى هؤلاء القوم. و الثورة على الكنيسة إنما كانت ثورة على التحريف الكهنوتي للدين و تكريسه للسيطرة. و هو نفس السيناريو يتكرر اليوم في الإسلام.
و ختاما فالإيمان تعبير عن الطبيعة الإنسانية التي تترجم الأفكار الى حرية اجتماعية و أخلاق فردية. قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 30 ) منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ( 31 ) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ( 32 ) ) الروم.
الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s