جعل إبليس طبيعة الأشياء سابقة لإرادة الله سبحانه و تعالى حينما جعلها معيارا للخيرية و الصلاح. بمعنى آخر جعل المادة مرجعا للمعنى و ساوى بين المادة المخلوقة و إرادة الخالق. فبعيدا عن الروح الالهية التي ميزت الانسان، فإن إرجاع الانسان الى ماديته المجردة ليس سوى امتداد لذات الفكرة.
الله سبحانه و تعالى يراهن (ان جاز لنا استخدام هذه الكلمة) على تراكبية الانسان المادية الروحية و قدرته على الوصول الى مراتب أعلى من الملائكة عن طريق العلم. و هو ذاته الأمر و الدرس الذي أعطاه لنا القران في ثنايا حكاية آدم مع الملائكة. إن اختزال المركبات الثنائية و الثلاثية في بعدية احادية هو تماما ذات المدرسة الابليسية التي اراد بها ابليس أن ينظر لنفسه في إزاء العالم، و أن الصيرورة و طبيعة الأشياء حاكمة على الإرادة الالهية، و بمجرد معرفتها و العمل بمقتضاها تسير الأشياء كما يريد الفرد. هذه الصورة من عبادة الذات المتمحورة حول الصيرورة هي الفكرة المركزية لجميع الأديان الوثنية. فالطبيعة تجد لنفسها موقفا مركزيا من حيث تعدد الهة ظواهرها او اتحادها مع تلك الالهة او الاله بشكل يختزل اما الاله في الطبيعة او الطبيعة في الاله و يترتب على ذلك موقف الانسان الذي يمتلك القدرة على التحكم في الطبيعة طالما يتقرب الى تلك الالهة باعتبار رضاها صيرورة طبيعية لا تملك الإرادة إلا بما يتوافق مع تلك الطبائع. لذا نجدها تغضب و تحب و تتناسل و تمتلك من الصفات الأقرب للإنسانية و تتحدد معها معايير الخير و الشر بطريقة نسبية تبعا لغياب أي مقياس معنوي لهذه الظواهر الطبيعية. فالبرق و الرعد و الموت و الحياة و القتل و الولادة ظواهر طبيعية يستحيل أن تحمل بصمات الخير و الشر ما لم يكن هناك مرجع معنوي أو الهي كامن يحدد تلك المعاني. إن قصة إبليس و ادم لهي حكاية أصل الإيمان بالله و عبادته و الإيمان بالصيرورة و عبادة الذات. هذه الحكاية المليئة بالرموز و المعاني جديرة لأن تصنع لنا تعريفا واضحا لمعنى الإيمان بالله تعالى و توحيده و توقيره. فبعيدا عن الاختزال يتحقق الإيمان بالله بإدراك البون الشاسع بين ثنائية المادة و الروح الكامنة في ذات الإنسان. فمنها ينطلق التعريف الأخلاق من جهة صوت الضمير الروحي و حدس المنطق من جهة العقلانية المادية. تلك الثنائية تجعلنا ندرك أن الإرادة الحرة من حيث ما نفعل ماديا لا تتنافر مع الجبرية باعتبار خلقتنا الأصلية أو مدى الهيمنة الالهية على المصائر و الأقدار. و تلك الثنائية أيضا هي المرجع إلى الإيمان بالله عظيم القدرة المهيمن على كل العوالم و فهم طبيعة العالم من حولنا باعتبارنا مستخلفين مستأمنين على هذا العالم دون انزال المقام الإلهي مقام المادة. بذلك تتقابل فكرتان كان من الممكن أن تتنافضا أبدا هما التوحيد و الثنائية. فأساس التوحيد هو القبول بثنائيات العالم التي لا تختزل أبدا.