مراجعة و تعليق على كتاب “العقلية” للمؤلفة الرائعة كارول دويك
-
مدخل
قدمت البروفيسورة كارول دويك نظرية رائدة في مجال علم النفس الإجتماعي سميت بنظرية “العقلية”، وضعت خلالها منظورا جديدا لتأثير المعتقدات البسيطة على السلوك الإجتماعي. لقد وجدت أن مجرد تبني الأشخاص لنظريات بسيطة في تصور قدراتهم يمكن أن يغير حياتهم جذريا. قد يبدو الفارق ضئيلا إلى درجة لا يصدقها عقل ما لم تدعمها نتائج الأبحاث العلمية. تتلخص النظرية بأنه يمكن تقسيم الأشخاص بناءا على نظرياتهم البسيطة عن قدراتهم إلى قسمين: أشخاص يؤمنون بأن قدراتهم قد تم تحديدها مسبقا و أنها ثابتة لا تتغير و أنه لم يبق لهم سوى العمل بمقتضى تلك القدرات التي تكونت لهم مسبقا (سُمِّيَ هذا النمط من الإعتقاد بعقلية الثبات). و قسم آخر يعتقد أن قدراتهم (أيا كانت) قابلة للنمو و الزيادة و أنها تتغير استجابة لمدى استخدامهم لهذه القدرات و عدد التحديات التي يواجهونها (سُمِّيَ هذا النمط من الإعتقاد بعقلية النمو).
أَوْضَحَتْ النتائج التجريبية بما لا يَدَعُ مجالاً للشك بأن التأثير السلوكي المترتب على تبني أيا من العقليتين هو تأثير حقيقي. و إذ أننا لسنا بصدد تفصيل تلك التجارب، سنقدم ملخصا توصيفياً لكلا العقليتين و ملامحهما الرئيسية و النتائج و التطبيقات المترتبة على تبني إحداهما؛ فهما متقابلين لا يرتفعا معا و لا يجتمعا في نفس العمل، فهما أقرب إلى كونهما متضايفين، ما أن يدرك أحدهما حتى يمكن إدراك الآخر. كما ننوه أن جميع ما سيرد في المقال سيكون مشاراً إليه بصفحة المصدر في الكتاب.
-
عقليتا الثبات و النمو و ملامحهما المميزة
يميل الأشخاص ذوي عقلية الثبات إلى الهرب من التحديات (50-51)، البحث عن تحقيق الذات و الخوف من الفشل (6)، الميل إلى إصدار الأحكام (10) و افتراض ديمومتها (31)، و التهرب والخوف من التقييم (26). لماذا إذاً كل ذلك؟! ما الذي يجعل هذه العقلية متشبثة بهذه النتائج؟ إن الاعتقاد بثبات القدرات تجعل الشخص يربط تعريفه لذاته بهذا القدرات دونما سبيل إلى تغييرها أو الخلاص منها. بالتالي فإن أي تحدٍ أو موقفٍ تظهر فيه هذه القدرات أقل عند مقارنتها بقدرات الآخرين يجعل ذاته و تعريفه لنفسه في موقف خطر. على سبيل المثال، فخسارة سباق ما تعادل القول بأن هذا الشخص يصبح “فاشلاً دائما!” بحسب تعريف ذلك الشخص لذاته و قدراته على أنها أمور ثابتة لا يمكن الفكاك منها. من جهة أخرى فكيفما هو “فاشل دائما” أو “ناجح دائما” فإنه يصدر أحكامه على الآخرين بنفس الكيفية، بل و لا يتوقع منهم أي تغيير محولا العمل (action) إلى كينونة (identity)، ما يجعله يقف على موقف النقيض من عقلية النمو (33). فالاعتقاد أن القدرات تنمو عن طريق التحديات تجعل أصحاب هذه العقلية يُقْبِلُون على التحدي و لا يخافون من الفشل أو التقييم، فهو الوسيلة المثلى لهم ليتعلموا من أخطائهم و لينمو و يصبحوا أفضل و أقوى و أكثر ذكاءاً. فلا معنى من ربط ذواتهم بقدراتهم، فهي تتغير باستمرار تبعا لمستوى التحدي و الخبرات الحياتية التي يواجهونها و مدى استخدامهم لهذه القدرات. هم لا يرون أن النتائج هي المهمة بالدرجة الأولى بقدر أهمية العمل الذي يقومون به و مستوى الجهد المبذول للقيام بذلك العمل (48). أما الفوز أو النجاح فهو النتيجة الجانبية لعملهم الدائم و الدؤوب و الشاق، حيث يكونون في أفضل حالاتهم، لا عند الفوز فقط مثل أصحاب عقلية الثبات، بل و عند الهزيمة أيضا طالما بذلوا أفضل ما في وسعهم (99). إن تبني عقلية النمو يحفز التركيز على تطوير الذات، زيادة الشعور بالمسؤولية (107)، و اللعب بروح الفريق؛ فلا ينصب التركيز على تحقيق الذات على حساب الآخرين، بل نمو تلك الذات و من يحيطون بها (105). بل وُجِدَ أن أصحاب عقلية النمو يكونون أكثر دقة في تقييم قدراتهم مقارنة بأصحاب عقلية الثبات (11)، فهم لا يتوقون إلى إظهار فوقيتهم، بقدر ما يريدون معرفة حالتهم للانطلاق إلى آفاق أرحب.
إن أحد أهم ملامح تبني أيا من العقليتين هو الموقف من عملية المحاولة وبذل الجهد في سبيل تحقيق الهدف. فإن الإعتقاد بفوقية القدرات (عقلية الثبات) يجعل المرء مائلاً نحو الاعتماد على هذه القدرات دونما القيام بجهد لتطويرها و تنميتها (41)، و إِنَّ أي فشل يمكن إرجاعه إلى أي عامل بعيدا عن هذه القدرات (فيقول: حظي سيء \ الطقس لم يساعدني \ هناك من يترصدني \ الموقف كان أكثر من قدرتي … الخ ). يقول مدرب كرة السلة الأسطوري “جون وودن”: “أنت لست بفاشل حتى تبدأ بالتبرم. توقف عن إنكار أخطائك و ابدأ في التعلم منها” (37). بالمقابل فإن عقلية النمو ترفع من تقدير الأشياء الصغيرة و المساهمات الفردية فهي تمثل الأشياء في طور نموها و تؤدي إلى خلق حالة من التواضع أمام الإنجازات الشخصية. ليس هناك مثال يشير إلى هذه الثنائية (التواضع مقابل التكبر) و العقلية (النمو مقابل الثبات) مثل شخصيتي لاعب السلة الأسطوري “مايكل جوردون” و لاعب التنس الشهير “جون ماكنرو” (31). ففي الوقت الذي يقال فيه عن مايكل بأنه “المسيح مرتديا حذاء كرة السلة”، فنجاحه لم يكن متيسرا، بل هو نتيجة للكثير من الجهد الذي بذله ما جعله لا يرى نفسه متميزا بتلك الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الأبطال (سنعود إلى هذا الجزء لاحقا). من جهة أخرى فجون ماكنرو لا يترك موقفا إلا و يبرز فيه فوقيته و بطولته و تعاليه على الناس و يرجع أي خسارة يتعرض لها إلى أي عامل عدا نفسه؛ فتارة يتعذر بعدم كفاية نومه أو ردائة حذائه و تارة أخرى إلى إزعاج أحد الصحفيين، و هلم جرا. إن عقلية الثبات تبقي صاحبها محصنا عن أي محاولات لتغيير ذاته نحو الأفضل. إن لم يدرك المرء مدى تغلغل هذه العقلية في ذاته ستصبح العديد من كتب تطوير الذات -التي تتكلم عن بذل الجهد و المحاولة لأجل التغيير- بالنسبة له مثل مصل لمرض حصان يراد إعطائه لإنسان يعاني من مرض مشابه (44). و النتيجة الكارثية لمثل هذه الفكرة هو أن الجهد و المحاولة لا تلائم الإنسان الذكي أو صاحب الموهبة، بل هي للأشخاص العاديين “و أنا لست عاديا!!” (10). و لا يعني هذا بحال من الأحوال أن يتميز أصحاب أيا من العقليتين بمعدلات ذكاء أو كمية إنجازات أو مقدار ثقة بالنفس أكثر من الأخرى، بل على العكس فكليهما يتميزان بنفس الشيء، و لكن الأمر المهم هو طريقة تعاملهما مع التحديات و حالات الفشل (50).
انطلاقا من الحكم على الأشياء، فالعنونة هي أحد أخطر أسلحة عقلية الثبات. فالحكم على الأشخاص باعتبارهم “جيدين \ سيئين \ أذكياء \ أغبياء” لا يجعل أصحاب عقلية الثبات ينمطون الأشياء فحسب، بل و يجعلون أولئك المعنونين يخلقون تعريفا لأنفسهم انطلاقا من هذه العناوين، خصوصا الأطفال! فمتى ما تم مدح الطفل بأنه ذكي، فإن أي خطأ طبيعي ينشأ أثناء عملية التعلم سيكون محل عار بالنسبة له و سيسعى لإخفائه هو ما سيصنع منه كاذبا (73)، و هذا هو بالذات مربط الفرس بين العقليتين. إن مدح الأطفال (كما سيأتي) هو أحد أهم التطبيقات الناجحة عن هذه النظرية. و على نفس المنوال فتذكير الأشخاص بالأنماط الإجتماعية التي وضعوا فيها يخلق تأثيرا سلبيا محفزا لعقلية الثبات، كما وَجَدَ الباحثان “كلاودا ستيل” و “جوشوا أرونسون” أن مجرد الطلب من الأشخاص أن يحددوا عرقهم (أبيض \ أسود) أو جنسهم (ذكر \ أنثى) يمكن أن يستدعي أفكار النقص التي يتداولها المجتمع في تلك اللحظة، وهو ما يؤثر سلبا على نتائج الدراسات (75).
عودة إلى الأشخاص الموهوبين و الأذكياء، تبعا لعقلية الثبات، فالناس ترفض التصديق أن الأبطال الخارقين أو الموهوبين يمكن أن يكونوا أفراداً عاديين مثلنا، بل يريدونهم مختلفين عنا في كل شيء (95). يعيدنا هذا إلى مايكل جوردون و جون ماكنرو، فالفارق في الحقيقة فرق في العقليات لا في حقيقة هل هم موهوبون أم لا. القصة التالية للاعب كرة القدم الأمريكية الأسطوري “جيم مارشال” توضح ما أعني. في إحدى مبارياته قام جيم بتسجيل هدف في مرمى فريقه و هو ما حطم روحه المعنوية أثناء المباراة، و لكن بدلا من الاستسلام لجلد الذات و النظر إلى نفسه كفاشل قرر جيم أن يستثمر الوقت المتبقي للمباراة في اللعب بكل ما أوتي من قوة، و هذا ما حصل، فقد أصبحت هذه المباراة أحد أفضل المباريات التي لعبها طوال مسيرته الرياضية (33). إن البطولة و استثمار الموهبة كما توضح قصة جيم مارشال تتكون من ثلاثة عناصر هي: خسارة أولية، ضعف قبل الهزيمة، و أخيرا نصر نهائي ساحق (95). تظهر أهمية العقلية المتبناة في حالات الهزيمة، العجز، الشعور بعدم الثقة في النفس، و انعدام الأمان (97)، فإما أن يتحطم الإنسان و يعتبر نفسه فاشلاً و يلقي باللائمة على أحد أو شيء ما، أو أن يولد بطل ينفض عن نفسه حطام الهزيمة و ينطلق بعزم و ثبات متعلما من أخطائه غير عابيء بمرارة الهزيمة، مستثمرا طاقاتها السلبية، محولا إياها إلى طاقة إيجابية متدفقة خلاقة.
درس أستاذ العلوم التربوية “بنجامين بلوم” أكثر من 120 شخصية متميزة في شتى المجالات العلمية و الأدبية و الفنية، و خلص بنتيجة واحدة، أن كثيرا منهم لم يكونوا متميزين في بداية مشوارهم الإبداعي و لكن ما يجمعهم هو أمر واحد: الإلتزام و التحفيز المستمر (65). قد لا تكون عقلية النمو هي أكسير النجاح، و لكنها على الأقل تجعلنا َنِشيْدُ بقدرة الإنسان على التطور بفعل الجهد أكثر بكثير مما نظن (65). و نحن لا ننتقص من قدر الموهبة بحال ، كما أوضحت سابقا، و لكن بدون الانكباب و الاستمرار في العمل، فهي لا تعدو عن كونها قابلية لا أكثر، لم تنتقل من نطاق القدرة إلى نطاق الفعل. قدمت الفنانة “بيتي إدواردز” مثالا لما يعنيه قابلية تعلم أمر متقدم كالرسم بشكل يكسر فيه التصور السائد. فعن طريق دورة تدريبية لمدة ثلاثة أيام قدمت درسا ثمينا في أن الرسم ليس إلا عدد من المهارات، متى ما أتقنها الشخص تمكن منها، و من ثم فعليه المتابعة إن كان يريد أن يحترفها (69). و ما الرسام الموهوب إلا شخص قد تعلم هذه المهارات و لاحظها لوحده و من ثم فإذا لم يتابع شغفه و يمارس هذه المهارات فسوف يفقدها أو لن تنفعه أبدا. يقول جون وودن “القدرة تستطيع أن تأخذك إلى القمة و لكن فقط الشخصية هي ما تبقيك هناك” (97).
-
تطبيقات النظرية
1- في مجال الإدارة
تحدثنا سابقا عن علاقة أصحاب عقلية النمو بروح الفريق و الشعور بالمسؤولية و هو ما يؤثر إيجابا على جميع الموظفين و المرؤوسين في شركة ما أو إدارة ما. إنَّ أحد أفضل الأمثلة على التغيير في الإنتاجية الذي تصنعه العقلية هو تبني نظام أندرويد من قبل شركة غوغل بعدما رفضته شركة نوكيا التي تربعت على عرش الهواتف المتنقلة لأكثر من 15 عاما بعد أن انتهت تلك الفترة بهبوط حاد و خسارة هائلة، فما الذي حدث إذاً؟ الجواب يكمن في عقلية الثبات للمدير التنفيذي الذي رفض الخروج من منطقة الأمان و التعلم عن طريق تجربة منتجات جديدة (122). بدأت أزمة العقليات في مجال الإدارة منذ أن قدمت شركة ماكنزي للإستشارات فكرتها حول أهمية الموهبة كعنصر فعال في الإدارة مثلها مثل الرياضة والفنون (108). تدفق عدد هائل من “الموهوبين” أصحاب معدلات الذكاء العالية و العقلية الثابتة إلى المنصات الإدارية كلٌ يحاول إثبات نفسه و تفوقه و لو على حساب الآخرين، بل و على حساب مصالح الشركة. و قد وصل الأمر إلى أن قام البعض بتدمير الشركة بعد انتهاء عهده في إدارتها ليظهر كم أصبحت الشركة سيئة بعد رحيله (112). أصبحت الممارسات السادية و السيكوباثية أمرا لا مفر منه تحت إدارة هؤلاء الأذكياء الموهوبين أصحاب عقلية الثبات كما أوضحت الدراسات (123). إن دراسة سير أشخاص مثل “لي إياكوكا” المدير التنفيذي السابق لشركة “كرايسلر” و “ألبرت دنلوب” المدير التنفيذي السابق لشركة “سن بيم” و “كين لاي” المدير التنفيذي السابق و مؤسس عملاق الطاقة “إنرون” كما قدمتها البروفيسورة دويك (114-120) يدرك مدى الأضرار التي يمكن أن تحدثها عقلية الثبات على الشركات و المؤسسات على المستويين البشري و الإنتاجي. إن الازدواجية بين عقليتي الثبات و النمو في الإدارة هي نفسها الازدواجية بين “أنا و نحن”، “الكراهية و الامتنان”، “الانعزال و المشاركة”، و “التميز الفردي و البطولة الجماعية” (133). إن قصصا عظيمة مثل قصة نمو “جينيرال إليكتريك” على يد “جاك ويلش” في الثمانينات و قصة إعادة IBM إلى طريق النجاح على يد “لويس جيرستنر”، و صعود شركة زيروكس نحو القمة على يد “أنا مولكاهي” (124-133) تعطي أملاً و مثالاً على الاحترام و التقدير و كفاءة الإنتاج التي يمكن أن يصل لها المرء على صعيد العمل المشترك. و هو أمر يبدأ من تغيير نظام مكافأة الموظفين و توزيع المدائح عليهم بما يتوافق مع عقلية النمو (مثل القول “عملكم جيد” و البعد عن التشخيص مثل القول “أنتم جيدين”) (137)، وانتهاءاً بتطوير تفكير الفريق لا ليوافق الجميع على رأي واحد، بل أن يدركوا مكامن ضعف كل فكرة اُقتُرِحَتْ قبل طرحها (134). و كما تذكر البروفيسورة دويك: “ليس القادة هم من يناسبون الوظيفة، بل هم من يستثمرون في التعليم و التطوير”.
2- في مجال العلاقات العاطفية و الشخصية
أ- العلاقات العاطفية
أي علاقة عاطفية أو شخصية بين شخصين أو أكثر لا يمكن أن تبنى على أكثر من ثلاثة أركان: الشريكين و العلاقة. تحفز عقلية الثبات الإيمان بأن الذات أو الشريك يحمل العبء الأقصى من المسؤولية تجاه العلاقة، و بالتالي هو فقط من يمكن لومه في حالة تدهور العلاقة (158). بالنسبة لهذه العقلية فمنظور ثبات الخصال الشخصية يكون طاغيا في تفسيره لحالات التوتر الطبيعية التي تحدث لأي علاقة بين الفينة و الأخرى، لذا فالقاعدة في حالات انكسار القلب هي: “ما أحلى الانتقام” (145). على الجانب الآخر فمنظور عقلية النمو للعلاقات يمتد لأكثر من رؤية الأشخاص و الشخصيات ككائنات تنمو وتتغير، فهي تتعداها لتمعن النظر في الركن الثالث؛ أي طبيعة العلاقة نفسها، فهي أيضا قابلة للنمو بالتعلم من الأخطاء و هو ما يستتبع مغفرة الأخطاء و المضي إلى الأمام (145). القصة التالية تقدم مثالا رائعا لعقلية النمو (و قد ذكرت سابقا أن الحاجة نحو العقلية تكون على أشدها في أوقات الأزمات): كان يوم زواج “نيكون كانتوس” مهيباً، فهي إبنة أحد العوائل الأمريكية الثرية، و قد حظي الحفل بتغطية إعلامية واسعة (147). تبدأ الكارثة حينما انتظر الجميع العريس لفترة طويلة لتكتشف نيكول قبل الجميع لاحقا أنه هرب. على الرغم من الصدمة الأولية التي عانت منها، فقد استجمعت قواها و لبست الأسود و ظهرت أمام المدعوين بكل شجاعة و رقصت لوحدها على أنغام أغنية “I will survive”. احتفى الإعلام لاحقا بشجاعة نيكول، و خلال سنوات معدودة وقفت نيكول أمام نفس المدعوين من جديد مرتدية نفس الفستان و في نفس الكنيسة لتتزوج من الشاب الذي يستحقها. و عندما سئلت عما إذا كانت خائفة من أن يتكرر المشهد نفسه ردت بكل ثقة بأنها كانت تعلم بأن حبيبها سيكون هناك.
لنعلم كيف يتصرف أصحاب كلا العقليتين إزاء العلاقات العاطفية و الزوجية سنلقي نظرة على انفعالات أصحاب عقلية الثبات و نترك للقراء استقراء أصحاب عقلية النمو. ينطلق أصحاب عقلية الثبات من منظورين في العلاقات (148-153): المنظور الأول هو أن علاقة الحب هي علاقة تلقائية لا تستدعي العمل بجد لبلوغ ذروتها. يقابل هذا في الثقافة العربية: “إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة .. فلا خير في ود يجيء تكلفا”. نحن لا نعيب هذا القول للشافعي بقدر ما نشير إلى أن الود لا ينمو بطبعه بقدر ما يحتاج إلى الرعاية كما أشار الشافعي في نفس القصيدة “و في القلب صبر للحبيب ولو جفا”. إن القول بطبيعة علاقات الحب يحمل صاحبه على استتباعه بعدد من المسلمات تكون في ذاتها مفاتيحاً للكثير من المشكلات الشخصية. فالقول بأن حبيبي أو شريكي يجب أن يقرأ ما في قلبي و عقلي و يعلم ماذا أحتاج و متى أحتاج هو مثال على أحد هذه المسلمات، بينما الواجب هو النقاش و التواصل. يعتقد صاحب عقلية الثبات في العلاقات أن الحبيبين هما من لا يختلفان على الأقل في الآراء الجوهرية، و قد يصل الأمر إلى عدم تقبل أي اختلاف في وجهات النظر و لو كان صغيرا. و يشبه ذلك الإيمان بثبات دور و مسؤوليات كلا الشريكين في الحياة الزوجية دونما تداخل مع الطرف الآخر. و هذه النقطة بالذات سبب لكثير من الخلافات الزوجية في الشرق والغرب. فالصورة التي يصنعها الرجل لدور المرأة أو العكس يدخله في دوامة عند تداخل هذه الأدوار، فعلى سبيل المثال يصبح الجواب على هذه الأسئلة بؤرة لخلافات أسرية عميقة: “من سيذهب بالصغير إلى الحمام؟”، “من سينظف أعقاب السجائر؟”، و “من سيذهب إلى المتجر للتبضع؟” … الخ. قليل من التفاهم و النقاش قد ينهي المسألة بتقديم التنازلات طالما أنه لا شيء ثابت (أو أنه يقبل التغيير). من المشاكل التي تنشأ عن الثبات هو الإكثار من الافتراض و التقليل من النقاش، حيث يقوم الشريك ببناء سيناريو معقد جاهز في رأسه عن موقف ما و يبدأ بإساءة فهمه للأمور قبل أن يستجيب لهذه الوساوس التي في رأسه بانفعال كان من الممكن تلافيه لو أخذت الأمور منحنى مختلفا من النقاش و التواصل و قطع الطريق على كل هذه الأفكار. و كما ختمت البروفيسورة دويك هذا الشطر من كتابها بأن نهاية قصص الحب الخيالية القائلة بأنهم “عاشوا في سعادة إلى الأبد” يجدر أن تتغير لتصبح و “عملوا في سعادة إلى الأبد”.
المنظور الثاني هو ما أوضحته سابقا من تشخيصٍ للقضايا و اعتبار أن المشاكل تعكس أخطاءاً في شخصية أصحابها، تبعا لثبات ذواتهم و عدم قابليتها للتعلم و التغيير (عقلية الثبات). فقد يرى الشريك أن لا معنى للحوار و النقاش فشريكي لا و لن يفهمني لأنه (هكذا \ جامد \ منغلق \ جاف عاطفيا \ أناني \ رجعي)، وهي أحكام يراد تنميطها في الشريك و اعتبارها حقائق أو مسلمات لا و لن تتغير، و بالتالي لا معنى للبحث عن حلول أو التواصل و النقاش حولها. و إذا تم التوصل إلى حل فلن يكون مقبولاً بالنسبة لكلا الطرفين ما هو أقل من التحول الشامل اللحظي السحري و عدم الاعتقاد بتدرج التغير، فالشخصية بالنسبة لهم ليست كائن نامٍ بل مجرد صفيحة لا تتغير بالمجهود و التصحيح المستمر، بل بالانتقال المباشر من حال إلى حال مختلفة. يمكن وصف ذلك بأنه الاعتقاد بأن “القابلية للتغيير” يجب أن تصبح “حتمية التغيير” (could تتحول لتصبح must). و بما أن آخر الداء الكي، و في حالتنا هذه هو الانفصال أو الطلاق، فالعقلية ستصاحب صاحبها أيضا إلى ما وراء تلك العلاقة، و سيكون الاعتقاد القائد أن هناك في مكان ما و زمن ما ذلك الإنسان أو الشريك أو الحبيب الكامل الرائع الشخصية الذي يستحقني، و الذي لن يحتاج إلى أن يتغير ليفهمني، أو في أحسن الحالات سيحتاج إلى القليل من التغيير ليفعل ذلك. يمكن تلخيص ما سبق في عبارة أن عقلية الثبات تواجه الأشخاص عند حدوث المشكلات بينما عقلية النمو تواجه المشكلات عند اختلاف الأشخاص، فكل شيء قابل للتغيير و المشكلة لا تعكس أخطاءاً فردية كما هي قابلة للتعلم منها لتفاديها في المستقبل.
ب- العلاقات الشخصية
ما ينطبق على العلاقات العاطفية ينطبق أيضا على علاقات الصداقة مع فارق مهم هو أن تلك العلاقات لا تتطلب من المرء عادة أن يتغير لأجل الشخص الآخر. تميل هذه العلاقات إلى تحقيق الرضا عن الذات و الآخرين عن طريق طمئنة بعضهم البعض و مشاركة آلامهم و طموحاتهم و مغامراتهم. و لكن حينما يؤمن الأقران أو الأصدقاء أن قابلية تغيرهم قليلة أو معدومة (عقلية الثبات) فسيتحول تحقيق الرضا عن الذات من المشاركة ليصبح معركة لإثبات التفوق على الآخرين (159). فبدلا من أن تكون المشاركة عاملا تحفيزياً للذات وللآخرين ستصبح مدعاة للمفاخرة و إثبات فوقية المواهب و القدرات من وجهة نظرهم. هذا يفسر لماذا يتجه العديد من الناس إلى اختيار شخصيات قد تكون أدنى منهم في العلم أو الإنجازات أو الاهتمامات لمرافقتهم طوال الوقت. لا نستطيع التعميم (فهناك الكثير من التفسيرات لهذا السلوك) و لكن قد تكون طريقة لإثبات التفوق عليهم، بل و قد ينفرون من مجالسة أقرانهم في المكانة أو المال أو العلم أو من يعتقدون أنهم أذكى منهم (بعقلياتهم الثابتة) لئلاَّ يحتقروهم، فصاحب العقلية الثابتة يرى نفسه إزاء الآخرين بنفس الطريقة التي ينظر بها إليهم. و على نفس المنوال قد يعمدون إلى محاولة تحقير الآخرين لا مجرد مجالسة من هم أدنى منهم مثل ما رأينا عند المدراء التنفيذيين أصحاب عقلية الثبات، فنمو الآخرين يهدد منظورهم لأنفسهم وللعالم بإزائهم (162). الأمر ذاته ينطبق على من يحاول العكس، أي طمس الفجوة الطبيعية التي تفصل بينه و بين صديقه أو شريكه بتقمص ما يهوى أو ما يحب بالكامل، فهو لا يعطيه المساحة الكافية للنمو و التحسن بقدر ما يهدف إلى إثبات أنه لا يختلف عنه بل و قد يكون أفضل منه (160). إن الصداقة الحقيقية تعكس نفسها بالوقوف وسطا بين قطبي الاختلاف و التساوي. إنها تقبل الآخر باختلافاته و تصنع مساحة رضا و تفاهم تنمو فيه كلا الشخصيتين. الصديق يحزن لحزن صديقه دون تحقيق رضاً عن الذات شماتةً فيه، و هو يفرح لفرحه دون حسد لسعادته، فتتحول مقولة “الصديق وقت الضيق” لتصبح “الصديق وقت الفرح و الضيق” (163).
و ختاما فما ينطبق على الصداقة و العلاقات العاطفية ينطبق أيضا على الزمالة، مع فارق جوهري هو غياب عنصر التعلق. فالأمور السلبية التي ذكرناها في الصداقة و الحب يمكن أن تتحول إلى أشكال متطرفة. فإظهار التفوق عند صاحب عقلية الثبات قد يتحول ليصبح تنمرا على الآخرين بإطلاق الحكم عليهم بأنهم ضعفاء أو مثيرين للشفقة أو “nerds” و هو ما يبرر اضطهادهم لاحقا (171). و يكون العكس حينما تطغى عقلية الثبات على صورة المرء عن نفسه سلباً فيصبح خجولا خائفا من حكم الآخرين عليه. فيغطي نفسه بغطاء من الكرامة الزائفة أو الجمود أو المكانة الإجتماعية و يعزل نفسه عن الناس حتى لا يتم الحكم عليه (165). و متى ما وجد هذا الخجول صاحبَ العقلية الثابتة شخصا آخر في موقف أضعف منه فلن يلبث حتى يجعله هدفا لتنمره و إثبات تفوقه عليه. و هذا لا يعني أن صاحب عقلية النمو لا يمكن أن يكون خجولاً، و لكن كما أوضحت التجارب ففرص تحكمه بهذا الخجل أفضل بكثير من صاحب عقلية الثبات، و الأمر ينطبق على كل ما ذكرناه (164). أترك للقارئ أن يستخلص كيف سيكون تصرف صاحب عقلية النمو فيما ذكرناه عن العلاقات الشخصية.
3- في مجال التربية و التعليم
أ- دور الوالدين
إن تطبيق مبادئ عقليتي النمو و الثبات على الأطفال هي أخطر و أهم نتيجة لهذه النظرية. فمنشأ كلا العقليتين يكمن في مفتاح الرسائل التي يقدمها الوالدين إلى أطفالهم في المقام الأول، ثم إلى تنشئة المدرسة و تربية المعلم في المقام الثاني (176). إن أحد أهم دراسات البروفيسورة دويك هي تجربة الثناء على الأطفال، حيث قدمت سلسلة من الأحجيات متدرجة الصعوبة من الأسهل إلى الأصعب و قسمت الأطفال إلى مجموعتين بناءًا على نوع الثناء الذي يقال لهم عند حل الأحجية، مجموعة أثنت على ذواتهم بقولها “أنت ذكي” و الأخرى أثنت على عملها بقولها “يبدو أنك بذلت جهدا لتعلم حلها”. حاولت دويك بذلك أن تستبطن عقلية الثبات في المجموعة الأولى و عقلية النمو في المجموعة الثانية. النتيجة كانت أن الأطفال في مجموعة عقلية الثبات كانوا يميلون إلى رفض المحاولة لحل أحجيات أصعب و الاكتفاء بالمستويات السهلة في كل مرة، بينما في مجموعة عقلية النمو كان الأطفال يفضلون محاولة حل أحجيات أصعب في كل مرة. توصلت دويك إلى نتيجتين مهمتين: الأولى أن العقلية يمكن التأثير عليها عن طريق الرسائل و الصور التي نغرسها في عقل المتلقي، و لو مؤقتا. ثانيا أن الطفل في مجموعة عقلية الثبات كان يحقق نتائج مدحه بأنه ذكي بابتعاده عن كل ما ينافي ذكاءه؛ فإن محاولة حل أحجيات أصعب تعني أنه إذا فشل فسوف لن يكون ذكيا. يظهر من ذلك أن المديح الخاطيء للأطفال قد يصنع منهم كاذبين لا هم لهم سوى التغطية على عدم نجاح محاولاتهم و إحاطة أنفسهم بهالة تحافظ على منجزاتهم و تمنعهم من الخروج و استكشاف آفاق أرحب (73) تماما مثل شركة نوكيا عند عدم تقبلها لنظام أندرويد. صيغ المديح التي تحفز الطفل على تَبَنِّي عقلية النمو كثيرة و غير منتهية طالما تحمل الطفل على القيام بالمزيد من الجهد و المحاولة و التركيز على التدريب و التعليم و عدم شخصنة نجاحه أو فشله، بل إرجاع ذلك للعمل الذي قام به و ليس ذاته أو قدراته أو شخصيته. ذكرت البروفيسورة دويك صيغ كثيرة نذكر منها: “واو! لقد كان هذا سهلا، لم لا نحاول القيام بشيء يمكن أن نتعلم منه” “واو! يبدو أنك تحاول كثيرا” “العمل الذي قمت به جيد، هل تريد المحاولة مرة أخرى” (178).
بالنسبة للوالدين فإن مديح الأطفال ليست الطريقة الوحيدة لإيصال رسائل تحمل إشارات لعقلية النمو. أحد أهم أسباب تبني الطفل لعقلية الثبات هو تعنيفه عند الخطأ، فالطفل بذلك سيعتبر أن الطريقة الوحيدة للحصول على الأمان و الحب هو عدم القيام بأي خطأ. و النتيجة الطبيعية لذلك هو الاعتقاد أن النجاح أو التفوق أو الفوز لابد أن يكونا بغير أخطاء، أي دون محاولات؛ و هذا هو جوهر عقلية الثبات. إن الطفل بحاجة إلى أن يشعر بالاطمئنان و الحب بغض النظر عن تصرفاته؛ أي حباً غير مشروط. لذا فحينما يُسْقِطُ الطفل أو يكسر شيئاً، طمئنه أنه لم يحدث شيء ذي بال ثم باشر معه بإصلاحه فورا بدلا من معاقبته ليتعلم بذلك أن أفضل طريقة لعدم القيام بالخطأ هي إصلاحه حينما يحدث، أو أن يتعلم كيف يقوم بها بشكل أفضل. يكفي تغيير مفهوم العقوبة ليتحول إلى الإصلاح بدلا من إلحاق الأذى. تحكي البروفيسورة دويك قصة مثالية تجسد مبدأ عقلية النمو عن الطفل الذي أسقط علبة المسامير، حيث صاح معلقاً:
الطفل: “كم أنا أحمق! لقد أَسْقَطْتُ علبة المسامير”
يلتفت الأب إليه و يقول في رفق: “لا يوجد شخص أحمق و شخص غير أحمق، هل تعلم ماذا يجب أن نفعل إذا أسقطنا علبة المسامير؟”
نظر الابن إلى أبيه و قال متعجبا: “ماذا نفعل؟”
قال الأب: “أن نعيد جمعها من جديد”.
هز الابن كتفيه متعجبا قائلاً: “هذا فقط!”
فرد الأب: “نعم يا بني”.
إن الصورة المثالية عند الوالدين يمكن أن تكون هودجا يحمل معه رسائل تحفز عقلية الثبات عند الأبناء. فالأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة لا يرون أنفسهم إلا من خلال أعين والديهم، و هو أمر صحي لتعلم الكلام و المهارات الإجتماعية ليلائموا البيئة المحيطة بهم. إنهم يضعون أنفسهم في عقلية ثبات تتحرى الصورة المثالية عند الوالدين للحصول على الحب و الشعور بالاطمئنان (225). تكمن المشكلة عند استمرار ذلك لما بعد الطفولة المبكرة، حيث يبدأ الأطفال بتشكيل شخصياتهم المميزة و الخروج عن إطار المثاليات الأبوي. إِنْ تُرِكَ هذا الأمر بدون توجيه فسينحو المراهق لاحقا إلى القيام بما يجعله يبدو ذكيا و مستقلا سواءا في عيني أبويه أو في عيون الآخرين، من جهة ليحقق مثالياتهم إن كان لا يزال أسيرا لنظرتهم، و من جهة أخرى ليثبت لهم أنه أصبح بالغا مستقلاً (58-59). على الوالدين الحذر من الصور المثالية غير الواقعية مثل القول بأننا نريدك أن تكون الأفضل أو وضع تصور متكامل لما “يجب” أن يكون عليه الأبناء. لا يعني ذلك عدم وضع طموح، و لكن لتفادي الوقوع في براثن عقلية الثبات، على الوالدين تحفيز المجهود أكثر من النتيجة و النجاح (192)، و إعطاء مساحة خاصة للنمو و تشكيل الشخصية بما يتناسب مع كل فرد على حده حتى ما بعد مرحلة المراهقة، ليصبح الأبناء بذلك أصدقاءاً لوالديهم لا تابعين لهم. و أخيرا فالطفل يحتاج إلى ما هو أكثر من المديح و التشجيع لتَبَنِّي عقلية النمو، فمناقشته و محاولة إقناعه و إخباره الأمثلة و القصص و الحديث معه عن ما تعلمه و ما يمكن أن يتعلمه ستقدم له مساعدة قيمة (234-236). إنَّ زرع عقلية النمو يحتاج إلى ممارستها في الحياة و تبنيها من قبل الأبوين قبل كل شيء، ففاقد الشيء لا يعطيه.
ب- دور المعلم
ما قيل عن الآباء ينطبق أيضا على المعلمين. إن المعلم صاحب عقلية الثبات لن ينظر لنفسه و أدائه إلا كَمُنْتَجْ نهائي غير قابل للتعديل، و أنَّ الباقي يعتمد على قدرات الطلاب و ذكائهم، و أن له الصلاحية في أن: يتبجح عليهم، يحكم عليهم بصلاحيتهم للقيام بالأعمال المختلفة، و تحديد مستقبلهم بالنجاح أو الفشل أو المهن التي سيتمكنون من القيام بها (201)، بدون اعتبار لإمكانية تحسنهم أو نموهم في المستقبل. بل قد يصل به الأمر لتحطيم مجاذيفهم عند تحسن أحدهم مخالفاً توقعاته. سيكون تركيز هذا المعلم منصباً على نتائج الاختبارات بدلا من الاهتمام بتنمية المجهود الذي يبذله الطلاب عند الاستذكار. سَيُعَرِّفُ هذا المعلم نفسه و ينظر إليها من خلال تلك النتائج، بل قد يصل به الأمر إلى تسهيل متطلبات النجاح لكي يبدو في مظهر المعلم الناجح. و ما ينطبق على المعلم ينطبق أيضا على النظام التعليمي، فهو في النهاية مرؤوس من قبل نفس أولئك المعلمين (196).
على الجانب الآخر فالمعلمين أصحاب عقلية النمو لا يكتفون بتحفيز الطلاب، بل يعلمون و يدركون أن الموضوع يستدعي القيام بجهد هائل لتحقيق ذلك. فالطلبة يحتاجون الإرشاد إلى الطريقة الصحيحة للقيام بالأمور و هي بذل المزيد من الجهد في الاستذكار و الاطلاع و تطوير ذواتهم (199). مجرد إخبارهم بذلك لا يكفي، بل يجب متابعتهم و إعطائهم التوجيهات الصحيحة والصبر عليهم، فالنمو عملية بطيئة و لكنها أكيدة المفعول. إن ما يحتاجه المعلم هو محبة التلاميذ و تقبلهم جميعا و تغذيتهم بالتحفيز و المعلومات و تحديهم مع المحافظة على الانضباط (198). نختم بالقول أن مبتكر مقياس الذكاء (IQ) ألفريد بينيت لم يوافق أبدا على اعتبار أن بنية الذكاء ثابتة ذات تحديد مسبق و لا يمكن تغييرها (5). يوافقه في ذلك عالم الاجتماع بنجامين باربر حيث يرفض تقسيم العالم إلى ناجحين و فاشلين، بل إلى أولئك الذين يتعلمون والذين لا يتعلمون.
4- في مجال الرياضة و التدريب
فكرة أن بذل الجهد يرفع من مستوى الأداء تبدو أكثر معقولية في مجال الرياضة منها في المجالات العاطفية أو التي تتطلب بذل مجهود عقلي. مع ذلك فإن هناك فكرة مفادها أن الموهوبون فقط هم من يمكنهم الفوز، بما يمثل انعكاسا لعقلية الثبات. أياً كانت الحقيقة وراء هذه الفكرة فإن الوقائع تؤكد أن الحاجة إلى العقلية تكون على أشدها أثناء لحظات الهزيمة، الانتكاس أو اليأس. ذكرت سابقا مثال لاعب كرة القدم الأمريكية جيم مارشال و كيف أسعفته عقلية النمو ليلعب أفضل مباراة في تاريخه بعد أن كادت أن تكون الأسوأ. إن ما يهم صاحب عقلية الثبات هو الفوز فقط ولا شيء آخر، فهي الطريقة الوحيدة التي سيثبت بها نفسه و تفوقه؛ مجرد الهزيمة قد تحطمه تماما بغض النظر عن كمية المجهود الذي بذله (211). على الطرف المقابل يخبرنا جود وود عن معنى الربح و الخسارة عند عقلية النمو بالتالي:”هل بذلت أقصى ما في وسعك؟ إن فعلت، قد يكون خصمك تجاوزك ببضع نقاط في النهاية، و لكنك لن تكون خاسرا أبدا” (207). في دراسة قام بها ستيوارت بيدل و زملاؤه لقياس تأثير كلا عقليتي النمو و الثبات على الأداء و القدرة الرياضية وجدوا ثلاث ملامح لعقلية النمو (97):
أ. يجدون النجاح عند قيامهم بأقصى ما في وسعهم.
ب. التراجع والهزيمة تكون محفزة لهم.
ج. يأخذوا بزمام الأمور و لا يعتمدون على موهبتهم.
عند النظر لكل ما ذكرناه آنفا عن عقلية النمو، تتضح أهميتها في تحسين جودة اللاعبين سواءا في الرياضات الفردية أو الجماعية، و لكن ماذا عن المدربين؟
إن المدرب صاحب عقلية الثبات مثله مثل المعلم صاحب نفس العقلية، فهو ينطلق من منظور أنه مُنْتَجْ نهائي و الباقي يعتمد على مهارات اللاعبين و موهبتهم. و كما ينظر المعلم صاحب عقلية الثبات إلى نتائج الطلاب على أنها تعريف لذاته، فالمدرب صاحب نفس العقلية ينظر إلى نتائج الفريق أيضا على أنها تحقيق لذاته؛ ففشل أو نجاح الفريق يعني أنه إما ناجح أو فاشل شخصيا (205). إنه قد يصبح ببساطة مصدر لتدمير ثقة اللاعبين بأنفسهم طالما أنهم قد جعلوه يبدو فاشلاً “تماما”، كما حصل مع مدرب كرة السلة “بوبي نايت” الشهير بانفعالاته لدرجة أنه رمى كرسياً وسط الملعب أثناء المباراة (203). كان بوبي يرفض الهزيمة أو الخطأ من أي لاعب، بل و يعمد إلى إهانته بكل الطرق إن اقترف أي خطأ، حتى أنه خنق أحدهم بشدة. يَدَّعِي بوبي أنه يضع اللعبين تحت ضغط ليخرجوا أفضل ما في أنفسهم؛ الحقيقة البسيطة أنه لا يعرف كيف يضبط نفسه و يأخذ الأمور على محمل شخصي. إن شخصيتي بوبي نايت و جون وودن تقدمان لنا مثالين صارخين عن الاختلاف بين عقليتي النمو و الثبات. يمكن تعريف الكأس المقدسة لكلا العقليتين باستخدام العبارات التالية:
أ. عقلية الثبات: “لا للأخطاء بغض النظر عن المجهود الذي تبذله”
ب. عقلية النمو: “العطاء بكل ما أوتينا من قوة مع الاعداد و التمرين الكافي” (204).
-
خاتمة
كما توضح التطبيقات الإدارية و الشخصية و التربوية و الرياضية لنظرية العقلية، فإن الملامح العامة لكلا العقليتين تتكرر في كل هذه المجالات، و تتلخص بالآتي:
أ. بالنسبة لصاحب عقلية الثبات فإن كل شيء يتعلق به و بذاته، فالذكاء و الفوز و النجاح هي أمور تحقق ذاته و جوهره (230)، الحكم على نفسه و على الآخرين هو أداته، فهو يتأرجح بين كونه “الأفضل” تارة و “الأكثر فشلاً” تارة أخرى (240)، فكل شيء يمثل جوهره و كينونته الثابتة الأزلية. إنه يحمي نفسه بحرص مستخدما مختلف أنواع الدروع النفسية مثل التخصص (كقوله: “هذا ليس تخصصي”)، أو الانعزال أو الشعور بالتميز (كقوله: “أنا لا أجالس هذه النوعية من الناس”، أو قوله: “أنا لا أناقش مثل هذه الأمور”)، حتى لا يعرض ذاته “المقدسة!” للنقد، و هو ما سيقف عائقا أمام نموه إلى آفاق أوسع (232). إِنْ حاول القيام بعمل خارج حدود منطقة الراحة الخاصة به فإما أنه لا يبذل مجهودا كافيا، أو لا يستخدم و يجرب استراتيجيات مختلفة للوصول إلى الحل، و النتيجة أنه سيتوقف عن المحاولة مرجعا الخطأ إلى أي عامل عدا ذاته” المعصومة”.
ب. بالنسبة لصاحب عقلية النمو فإن كل شيء عنده يتعلق بما يتعلم منه لينتقل إلى الخطوة التالية (227). لا شيء بالنسبة له يتعلق بجوهره، كما هي ليست معركة بين ذاته “السيئة” و ذاته “الجيدة”، إنها فقط ببساطة عملية تعلم ملئى بالأخطاء و المحاولات المستمرة (241). لديه الجرأة التي تدفعه إلى مواجهة أسوأ مخاوفه ليتعلم منها، خصوصا في علاقاته مع الآخرين (233). عندما يحاول أن يتقن شيئا جديداً فهو يحاول بكل ما أوتي من قوة، و قاعدته دائما: “هناك دائما طريقة للقيام بالأمور” (240).
إن قصة عقليتي النمو و الثبات يمكن أن تُخْتَمَ بالقول إن عقلية النمو هي إطار عمل للتعلم بينما عقلية الثبات هي إطار عمل للحكم على الذات و على الآخرين.