النظام المالي المستقر

تنبع حاجتنا البشرية لإنشاء نظام اقتصادي من حاجة المجتمع إلى مصادر تمويل تضمن له تحقيق غايات إنشائه؛ من إنشاء البنى التحتية، تحقيق العدالة، توزيع الثروة، النمو و الازدهار و إشباع رغبات الحكام!! و لما كانت ثروة المجتمع تقاس بكمية الثروات الطبيعية التي يملكها سواء كانت معدنية، زراعية، مائية، بشرية أو معرفية؛ فقد كانت نسبة النمو السكاني و تغطية حاجات المجتمع قائمة على كمية هذه الثروات؛ التي تترجم إلى مصطلحات المال و التمويل. يكمن المفهموم الثوري الذي أحدثته الرأسمالية هو في توفير تمويل هائل في فترة قصيرة (مبني جزئيا على كمية الثروات الموجودة). ذلك يعني أن البناء و النمو سيكونان بمعدلات خرافية.
ما يقوم به النظام الرأسمالي هو تضخيم الثروة عن طريق طباعة النقود بضعف معين أو نسبة معينة من كمية الثروات الأصلية (مثاله: ان تكون مجموع الأموال 3 مليار بينما كمية الذهب الموجود تكلف 1 مليار). و لمنع قيمة السلع من الارتفاع بشكل حاد مقابل ازدياد المال (تضخم الأسعار) على النظام إما أن يقوم بتصريف الثروة المتضخمة عن طريق الإنفاق أو أن يضخم قيمة الثروة الأصلية عن طريق الفوائد و استغلال ثروات الشعوب الأخرى فيضمن بذلك استمرار النمو الأسي للثروة المتضخمة (أي: 2، 4، 8، 16 …). هذا سيصنع كمية وظائف لا حصر لها و دعم غير محدود لمختلف الأنشطة في هذا المجتمع فقط. و في الوقت نفسه سيدمر باقي الشعوب مثل سرطان ينتشر في الجسد و سيراكم القوة و الثروة بايدي قليلة.
تكمن الكارثة أنه عند توقف النمو لأي سبب فإن كمية الثروات الأصلية لن تكفي لتغطية كل البناء و الإقتصاد الناتج عن الثروة المتضخمة. فما يحصل هو انكماش سريع و مفاجيء، فتصبح العملة فجأة لا تساوي قيمة الورق المطبوع عليها من جهة، و من جهة أخرى لا تكفي الثروة الأصلية لتغطية النمو، لتصبح هذه الحضارة تماما كبئر معطلة و قصر مشيد. و بالتالي كانت هناك الحاجة لصناعة معايير و معادلات رياضية دقيقة لمراقبة حركة الأقتصاد بغرض التدخل السريع. و منه أيضا توسيع و فتح أسواق جديدة (بأي ثمن) لفتح قنوات تصريف لهذه الثروة المتضخمة أو (الاستيلاء) على ثروات جديدة. و تأتي الحروب كأفضل هذه الأسواق سواء عن طريق التعبئة و التسليح قبل و أثناء الصراع أو إعادة الإعمار و الحصول على الامتيازات بعده.
من أهم مميزات هذا النظام هو استعداده الدائم لتلبية رغبة البناء المتسارع و تحقيق المكاسب بأقصى سرعة. و هو بالضبط ما كان يحتاجه الأوروبيون الذين كانوا في سباق مع الزمن لاستغلال حركة الكشوف الجغرافية التي بدأت في القرن الخامس عشر و تكللت بوصولهم إلى القارة الأمريكية الجديدة. و لكن يبدو لي أن السرعة أمر يخالف دستور الكون! فكل ما يتنامى بسرعة لا يلبث إلا أن يهوي بنفس السرعة إن لم يكن بأعظم منها. إن الدستور الكوني لا يهتم أبدا بالتسارع بقدر الاهتمام بالدقة اللامتناهية في التخليق و البناء. و قد يكون ذلك أحد أسرار البنية الشبكية المعقدة للكون نظرا لأن تكونها بالشكل الحالي قد استغرق مئات الملايين من السنين. و إن البناء الحضاري على هكذا نظام متسارع يحمل في طياته (بكل تأكيد) نواة انهيار متسارع إذا لم يطرأ تغيير محوري على هيكلته الأساسية.
إن المجتمعات تقتات على ثروات الطبيعة بنفس طريقة اقتيات الأفراد على الهواء و الماء و الغذاء، و هذا يحدث ضمن نسب دقيقة تتضمن الأداء الصحي و السليم للأجهزة الحيوية. تجاهل نسبة منها يعني دمار لجسد و عدم أداء وظائفه. و أزعم أن أمراض العصر الحديث ترتبط ارتباطا مباشرا بطريقة الحياة المتحضرة في القرن العشرين. و لست أعني ههنا الأمراض العضوية فقط، بل و أيضا الأمراض الاجتماعية و الأخلاقية و الفكرية و (الروحية). و لا يعني ذلك أن النظام المالي هو مصدر الشرور كلها، و لكني ألمح إلى أحد أهم مظاهر الحياة الحضرية الحديثة. و ذلك بكل تأكيد لا ينفي أبدا محاسن هذا النظام.
قد تكون هناك مذاهب اقتصادية أخرى لنمو المجتمع و لكن أيا منها لن يحقق الاستقرار ما لم يأخذ في الحسبان النمو الاقتصادي المعتمد على كمية الثروات الطبيعية فقط و فقط. فقيام المجتمع بذلك يعني نموا مستقرا و متوازنا و لكن في نفس الوقت بطيئا جدا و معتمدا على قاعدة معرفية او اعتقادية تستلزم أن تكون ثابتة على مدى طويل (و هو ما يخالف طبيعة الحياة المتقلبة). و توقف النمو في هذا النظام لن يكون كارثيا على الإطلاق. و لكن أمر واحد فقط يقلقني هو أن عوامل قيام هذا المجتمع تقتضي مراعاة كم كبير من الانسانية و الأخلاق للتغلب على الدوافع التنافسية التي خلقت النظام الرأسمالي. و أيضا فنظرا للوقت المطلوب، فإن تداخل عوامل الهدم مع عملية البناء سيصنع فجوات لن تظهر الا على المدى الطويل سيكون من الصعب تصحيحها. أترك الحل للمستقبل  
الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s